الثلاثاء، 1 يناير 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
لمحات عن المدرسة العقلية الحديثة ودورها الخطير في الأمة الإسلامية
الجزء الأول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
والحمد لله الذي امتن على العباد بأن يجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويحيون بكتاب الله أهل العمى ، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وضال تائه قد هدوه ، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم.
توطئة:
لم يكن انحطاط المسلمين في ميدان الحياة حادثا غريبا لأنه وقع وتكرر في التاريخ وليس غريبا ان تضمحل أمم منهم لأنه (قد خلت من قبلها أمم) ولكن الغريب أن يصل انحطاطهم إلى درجة أن يعبد فئام منهم شيخ الطواغيت وعدوهم المبين (إبليس) ناهيك عن شركهم مع أهل القبور واقتباسهم من الإنجيل والزبور،والدوائر عليه تدور. والعجيب أن بعضا منهم ديدنه الافك والكذب حتى نقع معه في اللهب تبت يداه ان لم يتب !.
إن المتابع لكثير من حال الأمم السابقة يجد أن العذاب إنما حل عليهم بعدما عصوا رسل ربهم وتركوا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد شرف الله أمتنا بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فأن تركتها انحطت وشابهت مثيلاتها من الأم السابقة ما لم تستعمل صمام الأمان المعد لها مسبقا بتوجيه رباني وهدي نبوي قويم.
إن الإنسانية لتبكي اليوم على هذا الانحطاط الذي يعيشه المسلمون لأنه كان يمثل قلبها العاقل،والذي يعد أهم وظيفة في جسدها الهزيل.
ومنذ أن غاب معلم الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه الأخيار ظهرت الفتن،وبدت محاولات التملص من التكليف والتكيف الذي وجه به الله،تمثل هذا التملص بجعل العقل المحور الذي تدور حوله الأمور.
فما ضل كثير من أهل البدع والأهواء إلا بسبب تقديم العقل على النقل-القرآن والسنة-
ولا شك إذا قلنا بمثل هذه المقولات أصبحنا في قفص الاتهام،بل يعيبون على الإسلام وأهله بأنهما لا يحترمان منزلة العقل!..وأقول:
ليس هناك عقيدة تحترم العقل الإنساني وتعتمد عليه كالعقيدة الإسلامية،وشواهد هذا من القرآن كثيرة،فالتدبر في مخلوقات الله وفي تشريعاته وفي الدنيا وأحوال الأمم السابقة سمة كرم الله فيه العقل،وفق استسلام نبيل سره اليقين دون خوض معارك فكرية نتائجها الشك والتخبط!.
لقد كان انحراف اليهود والنصارى عن دينهم الذي بينه لهم أنبيائهم،تمهيدا لظهور دول قامت على عداء الدين بجميع أشكاله،فكانت تتسكع في ظلام الجهل،مخمورة بكأس الفلسفة ذو الرائحة النتنة،والعجيب أن يوصف هذا الشراب كعلاج للأمم،فكل أمة شربته أدمنته مع ذهاب العقل إلا انه يرفع نخبه بأسم (العقل)!
ثم تلوثت بعض المشارب في تاريخ الإسلام،فظهرت فرق تمجد هذا اللون كالمعتزلة التي أراد الله بحكمته أن تؤول الأمور لهم بإقناع خلفاء الأمة الإسلامية باعتقادهم الفاسد ومن ثم فرض هذا المعتقد الملوث على الناس،وتصدى لهم من جعلوا قول الله الذي(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) وقول نبيهم الذي (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) وبهذا التصدي وهذا الدفع المبارك انهزمت المدرسة الاعتزالية،ولكن بقي لها رواسب في كتب بعض الفرق والتي لم تحرق.
وتتوالى الدول والأيام ونرجع بصفحات التاريخ إلى نهاية القرن الرابع متبوعا بالخامس تلك المرحلة المريرة التي مرت بها الأمة الإسلامية،فأميتت سنن وأحييت على حسابها بدع وتفككت المنظومة الشاملة للدولة الإسلامية ففي عاصمة الخلافة،أصبح البويهيون يشكلون الخطر الداخلي والمتحكم في مفاصل شؤون الدولة،ممجدين الحضارة الفارسية مظهرين التشيع،وليس بمستغرب أن يكون للمعتزلة ظهور على ظهر البويهيون،بينما بقية دول الإسلام فاصطبغت بالمدرسة الكلامية الأشعرية،وأصبح عالم الدين لا يرتقي حتى تكون له صناعة في هذا الفن.
وكل هذا بالتوازي مع انتشار الفكر الباطني في تلك الفترة.
لقد عاشت الأمة الإسلامية متفرقة بدويلات وأحزاب وفرق متناحرة مما ساهم في إعداد الحملات الصليبية عليها،مستقلة حالة الضعف التي تمر به الامة آنذاك.
وكان النصارى يعيشون قبل الحروب الصليبية حالة من التناحر والظلم والظلام...
يقول (روبرت بريفولت) في كتابهThe Making of Humanity))ص164 :
(لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر ، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً . قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم ، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت ، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال).
ولاشك أن هناك عوامل ودوافع دفعت للحروب الصليبية ضد المسلمين،سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية وأن كان الدافع الأول هو عداء النصارى للمسلمين بسبب ما ورثته الأحقاد البابوية في نفوس الأوربيين خصوصا والنصارى عموما.
وجاء القرن التاسع عشر...إذ بالعلمانيين يتجهون اتجاها منافياً لكل مظاهر الدين والتدين، وأحلوا الجانب المادي محل الدين، وبدأ الصراع يشتد بين العلمانيين اليساريين الناشئين وبين رجال الدين الكنسي المتقهقر، إلى أن أُقصِيَ الدين تماماً، ولم يعد للإيمان بالغيب أي مكانة في النفوس، إذ حل محله الإيمان بالمادي المجرد المحسوس(الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص 92-93)
كيف ظهرت المدرسة العقلية الحديثة؟
مع مرور الزمن نهش الضعف جسد الأمة ، و بدأت ريادة العالم العلمية تنتقل تدريجياً إلى الغرب الأوربي ، يحملها طلابهم الذين درسوا في المدارس الإسلامية،ولصوصهم الذين سرقوا من العالم الإسلامي نفائس المخطوطات و أمهات الكتب .
ثم جاءت لحظة تاريخية فاصلة بسقوط الخلافة ، فاغتصبت ديار الإسلام من المحتل النصراني الغربي، و بث التجهيل و التغريب في أبناء المسلمين ، حتى اتسع الفارق بين المسلمين والحضارة التي حققها عدوُّهم،و فقدت الأمة الإسلامية استقلالها،يسيرها أعداؤها كما يشاؤون-الا مارحم الله- و يعاني أبناؤها في الغالب من عقدة التخلف و التبعية .
و قد تمخض هذا الواقع عن ظهور فئة من المفكرين و الكتاب و العلماء الداعين إلى المسابقة بحجز مقاعد في سفينة الحضارة الغربية ، بحجة تجديد فهم الإسلام ، و تطوير أحكامه بما يتناسب و ظروف الزمن الراهن .
و كان في طليعة هؤلاء العلماء المجددين! كلٌ من جمال الدين الأفغاني و محمد عبده ، و آخرون ممَّن كانت لهم الشهرة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري .


صورة جمال الدين الأفغاني 


صورة محمد عبده
            
و قد نادى هؤلاء المجددون بإدخال إصلاحات جذرية في علوم الشرع و أحكامه لتواكب العصر.
وأبرز هولاء،مؤسس المدرسة العقلية الحديثة(جمال الدين الأفغاني)...
اسمه:(جمال الدين بن صفدر الحسيني الأفغاني،
وصفدر لفظ فارسي من ألقاب الإمام علي رضي الله عنه عند الشيعة ومعناه مقتحم الصف وقد حرف هذا الاسم من كتبوا ترجمته بالعربية فقالوا: "صفتر".
زعم تلميذه الشيخ محمد عبده أن نسبه ينتمي إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه- وقال بهذا الزعم أيضاً مصطفى عبدالرازق  ومن سمى نفسه بالمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي  وقال به أيضاً تلميذه محمد المخزومي  وغيرهم.
مولده:
ولد سنة 1254 هـ - 1838م وأول ما يصادف المؤرخ لحياة هذا الرجل من غموض الخلاف في مكان مولده هل ولد في أسعد آباد قرية من قرى كير من أعمال كابل في أفغانستان أو في أسد آباد قرب همدان أحدى مقاطعات إيران فيكون إيرانياً لا أفغانياً وإنما آثر أن ينسب نفسه – كما قال بروكلمان – إلى أفغانستان لأسباب سياسية  أو أن والده ضابط إيراني أوفدته حكومته إلى بلاد أفغان فتزوج هناك)
ماهية الرجل:
يعد جمال الدين الأسد آبادي من الشخصيات التي لا يزال الغموض يكتنفها والسرية تحوط معظم تصرفاتها ، إذ كان الأفغاني ذا علاقة مريبة باليهود والنصارى والمرتدين ، و صلة وثيقة بالمحافل الماسونية ، بل رئيساً لأحدها وهو محفل كوكب الشرق في القاهرة، و لذلك لم يعدم الأفغاني من علماء الإسلام من يفتي بكفره و انحلاله ، فقد اتهم الأفغاني بالإلحاد و الخروج من ربقة الدين عدة مرات والذي يقرأ مؤلفات الأفغاني ورسائله التي كان يرسلها لتلامذته وأتباعه يرى من خلالها أنه كان صاحب عقيدة غير سوية . وكون شخصية جمال الدين يعمها الغموض انفتحت عليها وجهات النظر المتضاربة
وجهة النظر الأولى :انه رجل إصلاحي بل مصلحا إسلاميا مجددا لهذا الدين ولهذه الأمة،وهذا الوصف أطلقه أتباعه ومن افتتن وغلا فيه.
وجهة النظر الثانية:انه صاحب دعوة شرقية لا إسلامية يقول الأستاذ: مصطفى غزال: لو رجعنا إلى كتابات جمال الدين لوجدنا أن دعوته إلى الجامعة الإسلامية في حقيقتها دعوة إلى جامعة شرقية تضم العالم الإسلامي بما فيه من أديان مختلفة وجنسيات متنوعة(دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام ، ص 238)
بل هو- جمال الدين- يؤكد ذلك حينما أخذ يوضح منهج العروة الوثقى التي أنشأها....يقول: (إنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين) الأعمال الكاملة لالأفغاني (2/344)


وجهة النظر الثالثة:انه شيعي
قال مرزا لطف الله خان ابن خالة جمال الدين المشهور بالأفغاني في كتابه (جمال الدين الأسد آبادي) ص 34:
( وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجَّهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها علاء الملك سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت بالأدلة القاطعة أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغاني ، ويتّخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به).
وهذا أحد المعجبين وهو الدكتور عبد المنعم محمد حسنين يقول في كتاب (جمال الدين الأسد آبادي) مادحا لهذه الشخصية ومتوصلا إلى أمر مهم وهو:
(ثبت لي بعد قراءة ما نشر من رسائل هذا المصلح الكبير انه كان إيرانياً من أسد آباد بالقرب من همذان وكان شيعياً جعفري المذهب) كتاب جمال الدين الأسد آبادي8-9
ثم لم يكتف الدكتور عبد المنعم حسنين بإثبات شيعيته، بل يؤكد أنه متعصب لمذهبه في (ص35-36): (بل لقد كان جمال الدين متعصباً لبلاده ومذهبه الشيعي، حتى في اتخاذ من يقوم بخدمته ويعنى بمصالحه الخاصة، فقد اتخذ خادماً له يدعى أبا تراب، وكان هذا الخادم ملازماً له أينما ذهب؛ كما كان أميناً على أسراره الخاصة، واسم أبي تراب من الألقاب الخاصة بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ويشبه هذا حرصه على أن يوقع باسم جمال الدين الحسيني؛ فإنه يرجح أنه شيعي إيراني؛ لأن لقب الحسيني له معنى خاص
عند الشيعة الإيرانيين؛ لشدة تعلقهم بآل البيت، ولا سيما الحسين بن علي)
ومن الأدلة(وجود عائلة جمال الدين في إيران وانعدام أي أثر لها في أفغاستان. وهذه حقيقة لا ينكرها الأفغان أنفسهم. بل إن من الأفغان أنفسهم من يعترف بأن جمال الدين إيراني حلّة ونسبًا، كما نقول بالعامية. وقد اعترف الأمير عناية الله خان، عم أمان الله خان، ملك الأفغان الأسبق، بأن جمال الدين إيراني الأصل، شيعي المذهب بعد أن اقتنع بصحة ذلك. فقد حرص الأمير المذكور في أثناء سفره من طهران إلى بغداد، على النزول في قرية أسد أباد بالقرب من همدان، حيث ولد جمال الدين، ومكث في هذه القرية بعض الوقت حيث اجتمع ببعض أفراد أسرة جمال الدين الذين يعيشون فيها وتحدث معهم، ثم زار قبور أجداد جمال الدين، والدار التي وُلد فيها. ولم يغادر أسد أباد إلا بعد تأكده من أن جمال الدين إيراني الأصل شيعي المذهب).
(هذه الأدلة أن اسم والده هو «صفدر» وهو من الأسماء التي لا يسمّيها إلا الإيرانيون، ومعناه الشجاع البطل. وقد أسند الإيرانيون الشيعة هذه الصفة إلى الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، لما أبداه في حروبه من بسالة ضد المشركين. ولا تعرف أفغانستان هذا الاسم، كما لا تعرفه البلدان الإسلامية السنّية الأخرى، فهو لا يوجد إلا عند الشيعة.
          ثالث هذه الأدلة نشأته وأسلوب تحصيله، فقد وُلد في عام 1839 وظل في المنزل حتى سن العاشرة يعكف على حفظ القرآن اكريم ثم التحق بمدرسة قزوين لأن والده كان مدرّسًا فيها. بعدها رحل إلى طهران ليدرس المذهب الشيعي بواسطة أكبر علماء طهران في ذلك الوقت علي السيد صادف. ثم رحل إلى العراق ليدرس في النجف التي تعد مركز الدراسات العليا في المذهب الشيعي، وقد أقام فيها أربع سنوات تتلمذ فيها على الشيخ مرتضى الأنصاري أحد كبار العلماء الشيعة المعروفين في ذلك الوقت.
          ثم إن اشتراكه في توجيه الأحداث في إيران دليل على إيرانيته. فقد اهتم بإيران أكثر مما اهتم بأي بلد إسلامي آخر. وكان أكثر من يضمّه مجلسه في اسطنبول من الإيرانيين. وممما يثبت إيرانيته أنه اشترك في تدبير مؤامرة للتخلص من ناصر الدين شاه ملك إيران. وكان قتل هذا الشاه على يد أحد أعوانه سببًا في افتضاح أمره، وكشف حقيقة أنه إيراني، مما جعل السلطان العثماني يتخلص منه في النهاية، لأن خصومه حين فكّروا في القضاء عليه لم يجدوا شيئًا يتهمونه به إلا أنه إيراني يكذب ويدّعي أنه أفغاني وسنّي حتى يجد له طريقًا في تركيا وبقية بلدان السلطنة. وهذا ما فعله أعداؤه في اسطنبول، وعلى رأسهم شيخ الإسلام أبوالهدى الصيادي. فقد قدّموا للسلطان وثيقة تثبت أنه إيراني شيعي، وبواسطتها استطاعوا تغيير رأي السلطان بجمال الدين، فقضى عليه ثم أسدل الستار على قصته، وهذا دليل على ثبوت أصله). ملخص من كتاب دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام
ماسونية؟!
وجهة النظر الرابعة:إن دعوته ماسونية تخدم اليهود أصحاب المرتبة العليا في التنظيم الماسوني،وعضويته في أكثر من محفل خصوصا الغربي منها تؤكد وجهة النظر هذه ومساهمته في المؤامرة على الدولة العثمانية بشكل عام وعى الخليفة عبد الحميد وكيف خدم الانجليز ومهد لهم الطريق وصلته بمحفل (اسكتلندا) تجعله في قفص الاتهام.
يقول الدكتور محمد محمد حسين الإسلام والحضارة الغربية ، ص 80
"كان من وراء الأفغاني ومحمد عبده كليهما قوتان كبيرتان تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذكرهما، وهما: الماسونية -قمة الأجهزة الصهيونية السرية- والاستعمار. وقد نجحت هاتان القوتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كله، وفي إضعاف أثر أعدائهما الكثيري العدد من علماء الإسلام المعاصرين، وحجب ما كتبوه عن جمهور القراء، فلم يمض على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر -موطن المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني- عامراً بأنصارهما الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)" ويقول أيضا "وقد ظل أصدقاء محمد عبده وأنصار دعوته يكثرون بما يلقون من تشجيع الإنكليز، الذين كانوا يمكنون لهم في إدارات الحكومة وفي مناصب الدولة الكبرى"
وبعد ذكر وجهات النظر المتضاربة والتي لا أعلم أن أحدا ذكرها سوى الشيخ سليمان الخراشي-وفقه الله-على اختلاف معه في بعض الأمور و المعروف بكتاباته الدقيقة والمهمة في سبره للأديان والفرق،فانه ذكر أن هناك وجهتا نظر للباحثين كلاهما تمتاز بالقوة الأولى: أن الأفغاني كان يريد إعادة الدولة الشيعية إلى بلاد مصر،والثانية تقول بأن الأفغاني ما كان يحفل بالمذاهب كلها سنيها وشيعيها،بل ما كان يحفل بالأديان نفسها! فالجميع -عنده- شيء واحد...

ويتضح لنا مما سبق
1- أن-الأفغاني- كان متهماً بالماسونية بل كان أحد كبار أعضاء الماسونية.
2- الدعوة إلى التغريب باسم التجديد.
3- الدعوة إلى التحرر والانحلال من القيود الشرعية.
4- الدعوة إلى توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام، واليهودية، والنصرانية.
5- الدعوة إلى وحدة الشرق بما فيه من ملل ونحل.
6- الدعوة إلى القومية الاشتراكية الوطنية.
7- الدعوة إلى السفور.
8- القول بوحدة الوجود.

وأما الدعوة الإصلاحية المنسوبة إلى محمد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين-هكذا يظنون- !! فقرب كثيراً من الأزهريين إلى اللادينيين ولم يقرب اللادينيين الى الدين خطوة وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني كما أنه شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر
يقول محمد عبده :
( وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة وصحفاً متصادقة يدرسها أبنا الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيتم نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله) .
 
الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع محمد عمارة 363ـ 364/2
ويقول الشيخ مصطفى صبري ـ عن محمد عبده ـ :
(فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكالفين زعيمي البروستانت في المسيحية فلم يتسنَّ لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين ، وإنما اقتصر تأثير سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنع بالنهوض والتجديد (
( موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) 1/144.
وكان "كدوري" يعتبر تلميذ الأفغاني "محمد عبده" ملحداً ، مستدلاً بقول الشيخ محمد عبده في رسالة لأستاذه بتاريخ 8 شعبان سنة 1300 هـ :
)
نحن الآن على سنتك القويمة لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهادا عبادا ركعا سجدا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ...) ، انظر منهج المدرسة العقلية في التفسير للشيخ فهد الرومي ، ص161 .
لقد فتح جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده باب فتنة عظيمة ومحنة كبيرة على الإسلام كتاباً وسنةً وتراثاً إسلامياً، وخلَّفا مدرسة فكرية عقلانية جمعت بين ضلال الفرق القديمة من روافض ومعتزلة وجهمية، ومن تحريفات وتأويلات باطلة، ومن طعون في السنة وحملتها بدءاً بالصحابة وانتهاء بأهل الحديث والفقه والتفسير وبين حملات أعداء الإسلام المستشرقين والمستعمرين على الإسلام والمسلمين.
ثم جاء من تأثر بهذه المدرسة منهم الشيخ رشيد رضا ومحمد واحمد مصطفى المراغي وعبد القادر المغربي وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمد توفيق صدقي ومحمود أبو رية وأحمد أمين وطنطاوي جوهري ومحمود شلتوت وعبد العزيز الجاويش وحسن البنا ومالك بن نبي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد فتحي عثمان وحسن الترابي ومحمد عمارة وفهمي هويدي ومحمد سليم العوّا وأحمد كمال أبو المجد وحسن حنفي وعبد اللطيف غزالي وجودت سعيد والغنوشي وسلمان العودة وخالص جلبي وطارق السويدان،وعبدالله الحامد.وغيرهم
وجل هولاء-بعد استثناء الشيخ رشيد رضا الذي تدرج حتى وفق للسلفية بما لديه من مخالفات للسلف- عاثوا في التراث الإسلامي،بحسن نية أو بغيرها،فأرادوا تكييف واقعهم بالنمط العقلي،حينما أعطوه حجما كبيرا يتقدم على الوحي الإلهي أحيانا،وكادوا أن يغيبوا الغيبيات في المعتقد الإسلامي بما تقتضيه الأحكام العقلية،منبهرين بالحضارة الغربية من حيث النظريات والاكتشافات،محاولين تجاوز الهوة الجغرافية والتاريخية بين الغرب وبين المسلمين،ثم نجد بعض التشابه مع المدرسة الاعتزالية بتحكيمهم العادة،وفي تهميش المعجزات أو تأويلها،ومشاغبتهم على السنة مع ادعائهم بالغيرة عليها،ثم أنهم أهل دعوة تقريبية مشينة،سواء بين المسلمين وغيرهم،أو بين أهل السنة وأهل البدع،ونجدهم أيضا جسر لكل فكر دخيل على الإسلام بدعوى الحرية الفكرية،والرأي والرأي الآخر،وكذلك هم دعاة انفتاح،فكانوا ثغرة دخل منها أعداء الإسلام لمزيد من الزعزعة والاستخراب
وأعود لأذكر بوجهات النظر الأربعة:هل دعوة الأفغاني إصلاحية أو دعوة شرقية أو شيعية أو ماسونية؟
وأرى أنها كلها واردة وذلك للأسباب التالية عندي:
1-إن الذي ينحرف عن عقيدة الرسول الكريم وصحابته رضي الله عنهم وعن تابعيهم بإحسان،ستختلط عليه الأمور وسيحاول تبريرها بشتى الوسائل فيسعى في كل محاولة لإثبات نظريته إصلاح.
2-إن الانحراف عن العقيدة يجعل الإسلام لا يمثل حضارة فلذلك يحاول بعض المنحرفين استبدالها بحضارة شرقية فارسية وبعمامتها الشيعية،وقد تستخدم التقية فتبدل العمامة،كما صنع الأفغاني.
3- إن الانحراف عن العقيدة يجعل المرء مطية المغضوب عليهم والضالين ومع ذلك لن يرضوا حتى تتبع ملتهم(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ولا يستغرب أن تسعى الماسونية لتحقيق مطالب الإتباع!
4-إن غياب العلماء في التصدي للأفكار الهدامة الدخيلة يجعلها تتنامى بيد أن العلماء الربانيون بدعوتهم الى التوحيد يشكلون مناعة،ولا شك أن مثل تلك الدعوات الهدامة تتنامى لعدم وجود المناعة الكافية في جسد أمتنا.
هذه هي حقيقة المدرسة العقلية الحديثة التي خرجت على الأمة في وقت عصيب محاولة ان تمد يدها إلى دفة القيادة،مستخدمة كل الأدوات الممكنة لتحقيق أهدافها ولو كانت على حساب العقيدة والثوابت والقيم!.
فمن الذي مهد للأنجليز دخول الدول العربية، ،ومن الذي أحيا فكر الثورات والانقلابات،ومن الذي دعا إلى التبرج والسفور،ومن الذي فتن بأوربا ومن الذي حول مصر من دولة إسلامية إلى دولة مدنية تطبق القانون الأوربي، ومن الذي أعطى للربا شرعية الفوائد ومن الذي كان يلمز الأزهر بالجمود وعدم الانفتاح ،ومن الذي أمر باستخدام السلاح بدل أن يكون فلاح!،ومن الذي ساهم في تحليل الخمر مما ترتب عليه فتح المخامر!ومن الذي ساهم في إنشاء طبقة من المثقفين وتهميش العلماء الربانيين!والأعجب من ذلك كله أنه يمارس باسم الدين!
لقد كان لجمال الدين وفكره الدخيل نصيب الأسد مما أستفهمته بالاسئلة السابقة....
يقول أبو رية: ( اتخذ السيد جمال الدين طوال حياته لتحقيق غاياته: وسائل الثورة السياسية،وكانت هذه الوسائل هي ما يتفق مع مزاجه،وقد ظن أنه أسرع الطرق للوصول إلى ما يبتغيه... ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام ، مصطفى غزال ، ص 370).
وثورة(عرابي)كانت نتاج فكر الأفغاني من جهة وانخداعه بالمؤامرة الانجليزية الفرنسية من جهة أخرى،إذ(لم تكن فكرة تدخل الشعب في السياسة واعتراضهم على الحكام موجودة في مصر حتى دخول الأفغاني مصر،وفي هذه الفكرة مفاسد كثيرة ، بل هي أصل من أصول إفساد الشعوب والبلاد .. وإثارة الشعوب على حكامها تؤدي إلى ثورات وإراقة دماء وفتن جاء الإسلام بالقضاء عليها ووأدها ) . التحفة الندية في الفتنة العرابية  ص132
و( اتفق المؤرخون على أن بذور الثورة في مصر قد وضعها جمال الدين ( الأفغاني ) قبل أن يُطرد من البلاد ) . ( المرجع السابق ، أحمد سعيد نونو ، ص 66 ) .
ولا ننسى الجاسوس الانكليزي بلنت واضع كتاب (مستقبل الإسلام) الذي يدعو فيه إلى هدم الخلافة الإسلامية، بنقلها من السلاطين العثمانيين إلى العرب،ويدعو إلى الاعتماد على الإنجليز في إقامة خلافة إسلامية قوية!و (كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه). دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام ، مصطفى غزال ص 124.
وبلنت (كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحياناً يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعاً من الدهاء والحنكة الإنجليزية) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام ص 123)
أما من دعا إلى التبرج والسفور فهي الثورة (وقد وصل التغيير إلى نساء المسلمين في عاداتهن وحياتهن الاجتماعية ؛ حتى في زيهن ، فكنّ قبل الاحتلال لا يعرفن إلا التستر والحجاب وعدم مخالطة الرجال وعدم الجلوس في مجالسهم ، وتغطية المرأة لوجهها ، وما تطور من ذلك إلى البرقع المعروف في الأجيال السابقة القريبة ؛ فأصبحن يتزين بزينة الكافرات الفاسقات الأوربيات .. )  التحفة الندية في الفتنة العرابية ص 231 )
أما عن تغيير الصيغ الشرعية بالقوانين الوضعية وتغريب مصر فيقول عبدالعزيز نوار (شرع كبار رجال القانون الإنجليز يدرسون القوانين الجديدة التي يجب أن تطبق في مصر، وصبغ مصر بالصبغة الإنجليزية) تاريخ العرب المعاصر ص 189
وأعجب ما للقوم الدعوة لليبرالية إسلامية وهو جمع بين متناقضين ليصفوا التمرد على القيم والثوابت بالحرية وتكون الليبرالية عنوان التجديد!.
أذن المدرسة العقلية الحديثة في تلك الحقبة وتحديدا في مصر كان لها الدور الرائد السلبي،فلا هي التي دعت إلى الشريعة،ولاهي التي نصحت الحاكم بل تحالفت مع عدوه،وساهمت في إغراق الحكام-الخديوية-في الديون الانجليزية والفرنسية من أجل الملاهي الشخصية،وكان الضحية شعب وأجيال نهايته احتلال!
هل توقف دور المدرسة العقلية الحديثة بغياب جيلها الأول والثاني؟!
كتبه:فارس الفرحان الجرباء
19-02-1434هـ
تابع الجزء الثاني.......


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق